كيف غيّرت العلوم حياتنا اليومية؟

 

هل حقًا نستعمل 10% فقط من دماغنا؟ (خرافة ممتعة يفضحها العلم الحديث)

المقدمة

كم مرة سمعت العبارة الشهيرة: “أنت لا تستخدم سوى 10% من دماغك”؟ قد تكون سمعتها في فيلم، أو قرأتها في مقال محفّز للتنمية البشرية، أو حتى جاءت على لسان صديق يحاول إقناعك بأن لديك قدرات خارقة غير مكتشفة. هذه الجملة جذابة جدًا لأنها تترك في أذهاننا فكرة أننا نملك طاقات هائلة غير مستغلة.

لكن، هل هي حقيقة علمية أم مجرد خرافة لطيفة؟ الأبحاث الحديثة في علم الأعصاب تؤكد بشكل قاطع أن هذه المقولة خاطئة تمامًا. الإنسان يستخدم دماغه بالكامل، حتى أثناء النوم.

في هذه المقالة سنفكك خرافة "10%"، ونستعرض أصلها، الأدلة العلمية التي تفندها، كيفية عمل الدماغ فعلًا، ولماذا انتشرت هذه الفكرة بقوة رغم بطلانها. وفي النهاية سنوضح كيف يمكن فهم قدرات الدماغ الحقيقية بشكل علمي، بعيدًا عن المبالغات.

---

من أين جاءت خرافة الـ 10%؟

أصل هذه المقولة غير واضح تمامًا، لكن هناك عدة تفسيرات محتملة:

1. إساءة فهم تصريحات علمية قديمة
   في أوائل القرن العشرين، كان بعض علماء الأعصاب يشيرون إلى أن وظيفة الكثير من الخلايا العصبية غير معروفة بعد. فربما حُرِّفت هذه الفكرة إلى القول إننا لا نستخدم سوى 10% من دماغنا.

2. علم النفس الشعبي
   علماء مثل وليام جيمس قالوا إن البشر لا يستغلون كل إمكاناتهم العقلية. لكن البعض ترجم ذلك خطأً إلى نسبة مئوية محددة.

3. الأفلام والإعلام
   أفلام مثل Lucy وLimitless غذّت هذه الخرافة، حيث تُعرض قصص عن أشخاص يحررون كامل قدرات دماغهم فيصبحون عباقرة أو يملكون قدرات خارقة.

---

ماذا يقول العلم الحديث؟

1. الدماغ نشط بالكامل

بفضل تقنيات التصوير العصبي الحديثة مثل fMRI وPET scans، يمكن للعلماء رؤية الدماغ أثناء العمل. النتائج واضحة:

• لا يوجد جزء خامد تمامًا من الدماغ.

• حتى أثناء النوم، مناطق متعددة تنشط لتنظيم التنفس، ضربات القلب، الأحلام، ومعالجة المعلومات.

2. كل منطقة لها وظيفة محددة

• الفص القذالي مسؤول عن الرؤية.

• الفص الصدغي عن السمع والذاكرة.

• الفص الجبهي عن اتخاذ القرار والتخطيط.
  إذا توقف 90% من الدماغ عن العمل كما تقول الخرافة، فلن نكون قادرين على البقاء أحياء أصلاً.

3. إصابات الدماغ تكشف الحقيقة

أي ضرر ولو صغير في الدماغ يؤدي إلى فقدان وظيفة مهمة (مثل الكلام، الحركة، أو التوازن). هذا دليل إضافي أننا نحتاج تقريبًا كل أجزاء الدماغ.

---

لماذا نحب هذه الخرافة؟

1. الأمل في قدرات خارقة

الفكرة تمنح الناس شعورًا أن لديهم طاقات غير مكتشفة يمكن أن تجعلهم عباقرة فجأة.

2. دعم كتب التنمية الذاتية

الكثير من الكتب التحفيزية تستغل هذه المقولة لتشجيع الناس على "تحرير قدراتهم الكامنة".

3. التشويق الإعلامي

القصص والأفلام التي تبني أحداثها على هذه الخرافة تحقق رواجًا لأنها تلعب على وتر الفضول البشري.

---

كيف يعمل الدماغ فعلًا؟

1. شبكة معقدة من الخلايا العصبية

• يحتوي دماغ الإنسان على نحو 86 مليار خلية عصبية.

• هذه الخلايا متصلة ببلايين الوصلات العصبية (Synapses) التي تشكل شبكة كهربائية وكيميائية هائلة.

2. استهلاك ضخم للطاقة

الدماغ يزن حوالي 2% فقط من وزن الجسم، لكنه يستهلك أكثر من 20% من طاقة الجسم. هل يعقل أن يستهلك هذا القدر الهائل من الطاقة إذا كان 90% منه غير مستخدم؟

3. اللدونة العصبية (Neuroplasticity)

الدماغ لديه قدرة مذهلة على التغير والتكيف، حيث يعيد تشكيل نفسه عند التعلم أو بعد الإصابات. هذا ما يمنحنا المرونة الفكرية والتطور المستمر، وليس وجود "مناطق خامدة".

---

أبحاث حديثة تكشف قدرات الدماغ

• دراسات النوم أثبتت أن الدماغ أثناء الأحلام يعمل على ترتيب المعلومات وتثبيت الذكريات.

• دراسات التعلّم أوضحت أن كل خبرة جديدة تعيد تشكيل الشبكات العصبية.

• أبحاث عن "الذاكرة الخارقة" أثبتت أن بعض الأفراد يمكنهم تذكر تفاصيل هائلة، لكن ذلك لا يعود إلى أنهم يستخدمون "جزءًا إضافيًا" من الدماغ، بل إلى تدريب ذهني خاص.

---

إذن، هل نستخدم 100% من دماغنا طوال الوقت؟

الجواب: نعم ولكن ليس في اللحظة نفسها.

• لا يعني ذلك أن كل خلية عصبية تعمل دائمًا بشكل متزامن، بل أن كل منطقة في الدماغ تُستخدم لوظائف مختلفة على مدار اليوم.

• يشبه الأمر مدينة ضخمة: ليست كل الشوارع مزدحمة في نفس اللحظة، لكن المدينة كلها مستخدمة عبر الزمن.

---

ماذا نتعلم من تفنيد هذه الخرافة؟

1. الدماغ مذهل حتى بدون خرافات: قدراته الحقيقية تفوق الوصف.

2. التعلم والتدريب المستمر: يمكنك تحسين قدراتك العقلية بالقراءة، حل المشكلات، تعلم لغات جديدة، وليس بانتظار "تفعيل الـ90% الباقية".

3. الوعي العلمي مهم: يجب أن نتأكد من صحة المعلومات قبل ترديدها.

---

الخاتمة

خرافة أننا نستعمل 10% فقط من دماغنا قد تبدو مشوقة ومحفّزة، لكنها ببساطة خاطئة علميًا. الدماغ البشري يعمل بكامله، وكل منطقة فيه ضرورية لحياتنا ووظائفنا اليومية. ما يجعل هذه الخرافة محبوبة هو أنها تمنحنا الأمل بقدرات غير مكتشفة، لكن الحقيقة أن إمكاناتنا الحقيقية تأتي من المرونة العصبية، والتعلم المستمر، وتدريب العقل.

بدلًا من انتظار معجزة تفتح لنا أبواب "90% المخفية"، علينا أن نستغل ما نملكه فعلًا: عقل نشط، مرن، وقادر على التغير والنمو باستمرار.

الدماغ ليس آلة نائمة تستخدم 10% فقط، بل هو أعقد جهاز في الكون يعمل ليلًا ونهارًا للحفاظ على حياتنا وتطوير إنسانيتنا.